01‏/11‏/2013

نقطة الصفر

فصل أول - محاولة فاشلة للتعبير عن الفكرة

فرك عيناه المتعبتان وبدأ بالكتابة.
"لقد بات جليّاً أن مسألة تحوّل جميع من لم ينضم لركب الراديكاليّة هو ليس سوى مسألة وقت وأصبح السؤال الذي ربما التغت الحاجة لإيجاد جواب له هو هل بدأت عملية التحول أم لا في أعماق نفسك الخاصة حيث أن ذلك التحول الحتمي هو كل ما بقي ليحدث.
لا يخفى على أحد أن إيجاد الجواب لذلك السؤال هو بحد ذاته أصعب تحدٍّ للنفس البشرية حيث أكاد أفهم تماماً ما دار برؤوس هؤولاء الذين قضوا آخر أيامهم في دوامة من الهلوسة الرعناء بمحاولة فاشلة -حسبما أعتقد- لإيجاد الجواب لهذا السؤال بالتحديد.
إن محاولة إيجاد الجواب هي بحد ذاتها مجرد سكبٍ للماء في المحيط. وهذا ما يجعل السؤال بهذه الأهمية والسخافة على حدٍّ سواء.
لك أن تختار أيها الإنسان، يا من وحدك أُعطيت الوسيلة التي تستطيع الوصول إلى منتصف هذا النفق المظلم اللامتناهي، هل ستقوم بالإجابة أم لا؟
لك أن تختار، هل ستتمكن بقوّتك المتناهية الغوص في هذا النفق أم لا؟ فإن قررت إكمال الطريق فستجد نفسك الحقيقيّة، التي ربما لا تكون سوى مجرد حبة رمل في الصحراء.
وأما إن اخترت العودة إلى البداية وترك هذا النفق، ربّما حتّى هدمه على مافيه، فلن يلومك أحد على ذلك بل أن معظمهم سيصفق لك على فعلك الجبان هذا. فهم سيسعدون برؤية جبان آخر يجعل من جُبنهم يبدو وكأنه الفعل الصحيح.
أكاد أعتقد جازماً أن الهلوسة هي ما يفصلني عن عبور هذا النفق حتى نهايته. ربما لن أعبره على الإطلاق وربما أعبره غداً وربما أعود أدراجي وآهدم النفق كجبان آخر، لقد غدوت مدركاً لإحتمالية جميع النهايات لهذه الرواية الدراميّة.
لم يبقَ لي سوى أن أنتظر لأرى ماذا سيحدث.
الجدير بالذكر هو أنه مهما حدث فالنتيجة واحدة. أجد هذه الخاطرة على قدر هائل من السوداوية لكنها تجعلني أشعر أنني أقتربت أكثر من قعر النفق المذكور.
إن كل ما تعرفه عن نفسك يتخزن في منطقة واحدة في دماغك، في تلك المنطقة كل ما يجعلك "أنت"، وأنت لست سوى تلك الخلايا الموجودة في تلك المنطقة.
لو أستطعنا إزالة تلك المنطقة، "إعادة تهيئتها" كما نفعل بذاكرة الكمبيوتر ومن ثم إعادتها إلى مكانها فستعود كما كنت حين خرجت من رحم أمك. لن تعرف شيئاً عن نفسك وستبدأ قليلا قليلا بالتعلم، ستقوم بملء الفراغات وربما تصبح كما كنت، مجدداً.
هل سيكون لديك نفس الآراء؟ ذات المعتقدت؟ الإيمان؟ ربّما، وربما لا.
تلك الفكرة -كما يَفترضُ مروّجها- يُفترض أن تُشعر القارىء بالتواضع. لكنها في الواقع ليست سوى مسمارٍ آخر في نعش الأنا العليا. ودفعةٌ قوية إلى عُمقِ النفق المذكور.
ماذا بقي لي إذا بعد هذا؟
هل يعقل أن أعود بعد كل هذا إلى نقطة الصفر؟"
بلع ريقه وفرك عينيه مجدداً.

فصل ثانٍ - تخطيط لتجسيد حرفي للفكرة

كان يعلم تماماً أن معضلة محاولة الوصول إلى التوازن بين الواقع والرغبة أمر مستحيل التحقيق، حيث إن هذا التوازن يتطلب أن يكون الشخص في موقع التوازن مابين التميز الإجتماعي والرغبة بتحقيق المزيد من التميز.
هذا ما قاده إلى إلغاء قناعته بالحاجة إلى التميز الاجتماعي كله، ثم المجتمع، ثم آراء الآخرين.
لكنه أدرك فجأة أن محاولته هذه جعلته متميزاً بالضرورة، فحاول عدم التميز بتقليد المجتمع وعاد إلى نقطة الصفر، ثم ألغى الحاجة إلى التميز واعتبره غير ضروري في هذه المعادلة.
لكنه حين ذلك ألغى المجتمع بكليته، ومعه ألغى مشاعره الغرائزية التي لا يمكن عمليّاً إلغاؤها، ثم أنتبه إلى أن إلغائه لها هو محاولة لجعل منظوره الحياتي أقرب لمنظور إلهي مجرد من الرغبات في الوقت الذي كان يعلم أن لديه من الرغبات ما ليس قليلاً وأنه في محاولة فاشلة لفرض تميزه الموجود في رأسه على طريقة تفكيره.
عاد لنقطة الصفر، وقرر هذه المرّة أنه سيبدأ من فكرة أن لا شيء مهم.
الحياة كلها بلا أهمية، لكنه أحس منذ اللحظة الأولى أن في هذا الإدعاء الكثير جدا من النفاق، فكيف له أن يعلم إن كانت الحياة مهمة إن لم يكن قد جرب نقيضها الموت؟ وهل سوف يمتلك من الجرأة أن يطرح هكذا إدعاء بدون أي دليل يمنحه قدرا من الموضوعية؟ فهو من المعجبين بالمذهب العلمي وعليه فلا بد من التجربة للوصول للإثبات.
لا بد إذاً من إجراء التجربة. تمتم وهو يحك رأسه.

فصل ثالث - تجسيد حرفي للفكرة

أمسك مسدسه الصغير الصدء الذي فاحت منه رائحة معدنٍ نتنٍ مشابهة لرائحة أثقال النوادي الرياضيّة، ثم وضعه على رأسه وكأنه يحاول سماع أفكاره بطريقة ما.
"لكن ماذا لو كان الموت هو العدم؟" تمتم بصوت خافت.
ثم استدرك ما يفعله ببطء.
هو يؤمن ايمانا عميقاً أن الموت هو العدم، وقد كان يؤمن بذلك حتى قبل أن يطرح على نفسه هذه الفكرة الفريدة من نوعها، تجربة أداء للموت.
ثم أستدرك مجدداً ليقوم بجردٍ لدوافعه، فهو إذاً يريد الموت لسبب آخر، "هل هو هروب" قال بصوت مسموع وهو يحك رأسه بالمسدس.
شعر بنفسه يعود بسرعة إلى نقطة الصفر، فالتفسير الأكثر منطقية لما يفعله هو هروب من السؤال أكثر منه محاولة للإجابة عنه. والهروب يجعله جبانا آخر بطريقة أكثر راديكالية بقليل.
نقطة الصفر إذاً.
مجدداً.