16‏/09‏/2011

حب الليزر

نظر إلى الباص المرتعش بحركات سريعة نتيجة لضربات المحرك المازوتي الضخم... وسحب من سيجارته... كانت الساعة تقارب الخامسة مساءا في كراجات طرطوس - صافيتا... وكانت أشعة الشمس تنعكس برقة من مراَة الباص على جهاز الراديو المتعشق بالتابلو بطريقة يعجز علماء الفيزياء عن فهمها... بينما كان ذلك الراديو يصرخ بأغانٍ شعبية عن كؤوس العرق في النوادي الشعبية.. كان ذلك اليوم من الأيام الطرطوسية المعتدلة.. حيث لم يتضايق الشاب من الرطوبة الخفيفة التي أعطت قيمة أكبر لكل نسمة هواء تمر من جانبه... نظر إليه سائق الباص وفي يده سيجارة "حمرا طويلة" وقال: "طلاع عمي طلاع بدنا نمشي"
رمى سيجارته بجانب قدمه وصعد بينما تحسس "فكه" الذي كان مازال يؤلمه منذ موعده مع دكتور الأسنان قبل نصف ساعة.. حاول الأنين ليتحقق إن كان الكلام ما زال يؤلمه...كان مازال يؤلمه بالفعل.. وصعد. بينما حاول حشر جسده بين أجساد الركاب العابقة بعطور رخيصة تابع إلى نهاية الباص وجلس... بعد حوالي خمس دقائق كان الباص مايزال يتحرك بإتجاه صافيتا عندما سمع صوتا أنثويا يعرفه جيدا سمعه من قبل يقول: "سعيد؟"
نظر إلى جانبه ليرى فتاة كان يعرفها جيدا... للوهلة الاولى لم يستطع التفكير سوى بكم هو محظوظ لأنها تذكرت اسمه... ثم حاول التكلم
- ااه... أيا..
تبا! لا يستطيع التكلم.. والان ربما ستعتقد أنه معاق أو ما شابه... أو ربما تعتقد أنه يسخر منها.. اللعنة... استجمع قواه الكلامية وقال: أهيين كندا... وييك اتتي.. زماا ما شفااكي؟
- شبك ليش عم تحكي هيك؟
- وووا شي بس كتت عدد دكتوو السسس... الللسسس
- السنان؟
- اي اي... لك اشتئتتتك اتتي وييي هالغيبة؟
- هون أنا يا زلمة... انت وينك؟ بتتذكر أيام المدرسة لما كنا نهرب قبل ما يخلص الدوام؟ يا الله ما أحلى هديك الأيام... يا ريت بترجع
- لك ايي اييي يا ييت بتتجع...
- انت شو عم تشتغل هلق؟ وين صرت؟
- ووواللللا صصت..
فجأة قاطعة الصوت الستيريو الصيني الضخم بأحد الأغاني الشعبية عندما قرر سائق الباص رفع الصوت قبل أن ينظر إلى الجالسين بجانبه مبتسما ويهز أيديه بطريقة "الدبيكة"
- والووا صصتت سنة خاسسسة هددسة
- صوت شووو ما سمعت؟
- صصصوووووت سسسس.. ووووك خاسسسة
- طب عطيني رقم موبايلك منقعد شي يوم منحكي
- اي... صصصففف تتسساا..
- ما سمعت؟
- صصصففففففف تسسسسسس
- ليك أنا نازلة هون سجل رقمي اوكي؟
- اوكي..
مد برجله إلى الأمام محاولا إخراج موبايله من بنطلونه الضيق... تذكر فجأة أن موبايله "خلص شحنو" منذ أن كان في طرطوس..
- موباييي خاااص شحوو
- موبايلك خالص شحنو؟
- اي
- وأنا موبايلي خالص شحنو.. طب ليك منحكي بعدين ماشي أنا نازلة هون.. عراحتك معلم (صرخت للشوفير)
- لللحظة.. وككك...
- في شي؟
نظر إليها وفكر بجميع الطرق الممكنة للتواصل معها .. ثم ارخى بجسده على المقعد الجلدي الضيق وقال: خخلص مش... باي
- باي
وبينما أخذ المحرك المازوتي الضخم بالدوران مرة أخرى نظر سعيد إلى النافذة المليئة بالأوساخ التي تجعل الطريق يبدو مبلورا... ثم فتحها وفكر... ربما ألتقي بها مرة أخرى.. ربما يجمعنا القدر.. ربما..
فجأة قاطعه صوت الراكب بجانبه .. لاء
- عففوا؟
- لاء ارجاع سكر الشباك برد.
- حاضر..


حب الليزر ام بي ثري 

08‏/09‏/2011

انسانية

بينما كان صوت الغيتار الكهربائي يصدح في خلفية تلك الغرفة الصغيرة... جلس انسان اخر وحيدا على كرسي صغيرة بأضواء خافتة بينما ملأ صوت بيل هيكس الغرفة بأغان عن الحرب والموت*.. جلس هناك وحيدا في يده علبة سجائر بينما اخذ يلعق شفتيه بتوتر..
تبا.. قال وأشعل سيجارة وأحس برأسه ثقيلا أكثر وأكثر بينما استمر بلعق شفتيه.. ثم وقف و نظر إلى الفراش الذي ما زال ينتظر ترتيبا كان قد وعده به منذ وقت طويل... نظر إليه ثم مد يده بحركة لا إرادية وأحرق طرفه.. ثم أخذ يراقبه بينما أخذت النار تشتعل أكثر وأكثر... وبينما أخذ الدخان يملأ الغرفة... وضع سيجارته بفمه وأغلق عينيه.
فجأة وجد نفسه واقفا على منصة هائلة الضخامة... نظر حوله ليرى ملايينا من الناس.. ربما أكثر.. أمامه قبع مايكروفون.. لم يفكر.. مشى إليه وتكلم.
أيها البشر.. أنا واحد منكم.. مجرد إنسان اخر... لست أفضل منكم.. لست أسوأ منكم.. نحن لسنا مجرد دكتور.. محامي.. مهندس أو مفكر أو مثقف... نحن أكثر من ذلك... أترون يا أعزائي؟ لا أظنكم تدركون أهميتكم... لا أظنكم تدركون أن وجودنا أكثر روعة وأهمية مما نجعله بغبائنا وتفاهة تفكيرنا.. نحن.. بشر.
وما لا تدركونه يا أعزائي هو أننا أعطينا فرصة لنجعل من وعينا طريقا لما هو أفضل... نحن قادرون على أي شيء..
وما لا تدركونه أيضا هو أننا لسنا بالوعي الذي نظنه.. حاليا يا أعزائي... نحن نعيش كالحيوانات.. مجرد حيوانات.
ولكننا قادرون عى تغيير ذلك.. لدينا كل ما نحتاجه.. لكن عندما نستطيع التخلص مما يعلق برؤوسنا من فضلات فخر.. فخر بما أعطي إلينا بالوراثة.. يمكن لنا أن نحقق شيئا جديدا.. شيئا اخر تماما.
هل تدركون الإمكانات اللا محدودة بما تستطيع عقولنا أن تفعله إن توقفنا عن النظر إلى الصورة الصغيرة؟ إلى حياتنا وتفاصيلها الغبية؟ إلى كل ما يشغلنا عن التفكير بوجودنا وأهميته؟ إن استطعنا إدراك غباء إختلافاتنا؟ نحن جميعا هنا لنفس السبب.. نحن جميعا وعي واحد.. نحن جميعا وجود واحد... هذا ليس عالم بعضنا.. هذا عالمنا جميعا... وبقليل من التفكير يمكننا جعله مرحبا بنا جميعا دافئا دفء حضن أم لنا جميعا... نحن قادرون... لننسى أديانا فرقتنا.. نحن لسنا مختلفين على الاطلاق... لكننا نخلق اختلافنا ونستمر بترسيخه وترسيبه يوما بعد يوم حتى نصل للمرحلة التي يصبح اختلافنا كل ما نراه ببعضنا البعض.
عالم واحد... وجود واحد... لأجلنا جميعا... لأننا نستطيع جعل مصلحتنا جميعا ومصلحة كل فرد منا واحدة... لأننا نملك الوعي.. لأننا قادرون... نحن قادرون...
وبينما كان صوت الجيتار الكهربائي في الغرفة المغلقة يختلط بصوت اللحم المحترق... كان اخر انسان مازال يتمتم على أرض الغرفة... لأننا.. قادرون.


* Bill Hicks - Lay Of The Land